يبدو هذا المسجد الشريف لناظره في قلب البلدة القديمة شامخا متحديا لكل السنين التي عاشها ولم تقلل السنين من صلابته وجماله بل زادته عراقة وشموخ. شيد المسجد الإبراهيمي فوق المغارة التي تحوي مدافن أبي الأنبياء إبراهيم وزوجته سارة وأبنائهما إسحق ويعقوب عليهم السلام وزوجيهما رقية.
والمسجد الإبراهيمي من المباني التاريخية التي ترقى الى العالمية من حيث القدم والقدسية , فقد كانت أسواره شاهدا على أحداث هامة في تاريخ البشرية جمعاء على مدار أكثر من ألفي سنة, وكان صرحاً معمارياً يدل على أهمية هذا الموقع منذ القدم, ولعل أول ما وصلنا من مظاهر الاهتمام بالمغارة والحرص على حمايتها هو بناء السور الضخم (الحير) حولها وتشير الدراسات الى تشييده في عهد هيرودوس في العقد الأخير قبل الميلاد, وعلى الرغم مما عاشته المنطقة من أحداث تاريخية وتعاقب الدول والشعوب إلا أن البناء قد حافظ على تكوينه وجمال عمارته, الى أن جاء الأمويون (660 – 750م) وأقاموا مسجدا داخل الحير وكانت قبة المسجد تعلو قبر إبراهيم عليه السلام. وتعاقبت الدول الإسلامية على المدينة محافظة على مكانته وأهميته كأحد أهم مساجد العالم الإسلامي.
وفي العام 1099م غزا الصليبيون المدينة وحولوا هذا المسجد الى كنيسة حتى جاء القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي عام 1187م واسترد البلاد وأعاده الى حاله السابق كمسجد إسلامي ووضع فيه المنبر المشهور لأهميته ومكانته وعرف باسم المسجد الإبراهيمي الشريف.
جاء العصر المملوكي (1250-1517م) لتزداد أهمية المدينة وازدادت رحلات الحجاج إليها وأصبحت تجذب الصوفيين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي, وحرص المماليك على توسيع مرافق المسجد من خلال عدة أعمال معمارية وإنشائية واسعة دون المساس بملامحه القديمة الأصيلة, ليستوعب الأعداد الكبيرة من رواده وزائريه من مختلف أرجاء المعمورة, وأما في العصر العثماني 1517 – 1917م فقد حرص العثمانيون على حماية المبنى والحفاظ على طابعه الخلاب وعمارته الساحرة دون إضافة ملحقات جديدة كبيرة قد تغير من ملامحه.
سيطر الانجليز على المدينة عام 1917م وتراجعت قدرة المسلمين على رعاية مدنهم وتأثرت المساجد كلها بما فيها المسجد الإبراهيمي, وفي عام 1948م وبعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين انتقلت إدارة الضفة الغربية الى المملكة الأردنية الهاشمية التي حرصت على توسيع الفضاءات حول المسجد الإبراهيمي لإبراز جمال عمارته وتوفير الساحات المفتوحة من حوله وذلك في أواسط العقد السادس, سقطت المدينة بيد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967م وبدأت البؤر الاستيطانية بالانتشار حوله ومارس المستوطنون اعتداءات شبه يومية على رواد وزائري المسجد ووضع جيش الاحتلال العديد من القيود على وافديه في الدخول, وفي عام 1994م قام المستوطن باروخ غولديشتاين بتنفيذ مجزرة الحرم حيث قتل العشرات داخل المسجد أثناء صلاتهم وعلى أثرها أغلق الجيش الإسرائيلي بعض قاعات وأجزاء المسجد أمام المسلمين وتم تحويله لاماكن خاصة بالعبادة لليهود.
وعلى الرغم من اتساع المدينة وامتداد أحيائها لمساحات شاسعة خارج البلدة القديمة إلا أن المسجد الإبراهيمي ما زال القلب الحي في المدينة والشاهد على تاريخها منذ آلاف السنين, وله المكانة العالية في قلوب أهل المدينة وروادها.
جميع الحقوق محفوظة @ لمنصة إستكشف فلسطين. تصميم وبرمجة Element Media